الصلاة فى مسجد حنــــا







فى عيد الغطاس كانت تقول: "ياوليدى روح هات عود قصبك واعمل صليبك من دلوقتى قبل الليل ما يليل "، وفى رمضان كانت تقول: "النايب ده بتاع عمك ميشيل هو يحب اللحمه الملبسة..اوعى الصينيه تتكب من على راسك .. ارفعها من قدام ".
الآن افترقنا ..لم أعد أخرج بعود القصب والصليب، ولم يعد يأتى عم ميشيل لإفطار أول يوم رمضان عندنا، ولم تعد جدتى تنصحنى .
هى نسيت، وعم ميشيل النصرانى نسى، وأنا نسيت، حتى ذهبت إلى "طنان" -إحدى قرى محافظة القليوبية - ووجدت مسجد "حنا" الذى بناه واحد من بهاوات الزمن الجميل قبل أن يشرع فى بناء الكنيسة التى يصلى فيها .

أهالى "طنان " لم ينسوا .
رغم ان اللافته التى وضعتها وزارة الاوقاف كُتب عليها "المسجد الكبير "، رغم ان حنا بيه مات ومر على وفاته 89 عاماً، ورغم ان أولاده وأحفاده تركوا السرايا بعد أن اعتبرتها وزاره الأثار جزءا من تاريخ مصر .
رغم كل هذا.. مازال الناس يرددون "قصدك جامع حنا بيه اللى بناه النصارى".


الكادر مختلف .."لسعه" الهواء الممزوجه بنكهه الزرع الأخضر والترع ..ولد بداخلك إحساس بالألفه ، الوجوه التى أخذت من لون الارض سمرتها.. تقول لك "خليك حدانا ..البلد دى أحسن من العمارات والزحمة وعساكر الأمن المركزى " .
عم إبراهيم عطيه إبراهيم،69 سنه ،  مزارع ،يحكى لك حكاية "حنا بيه" صاحب الوقف الذى بنى أول مسجد للمسلمين قبل أن يبنى الكنيسة التى كان يصلى فيها .
" ما حصلناش إحنا حنا بيه ..بس كانوا يحكوا لنا عنه" .
يحكون عنه.. "كان راجل طيب ..كان ماسك البلد كلها أيام الملكية.. كان معاه   800 فدان وكل الأراضى اللى انت شايفها دى كانت الوقف بتاعه".
ويحكون عن مسجده .."هو اتبنى سنه 05 -يقصد 1905 - ، كان حنا بيه بيجيب بنايين وياخدوا فلوس منه ويتغدوا عنده" ، وهو"مابناش الكنيسة..بنى الجامع بس..الكنيسة اللى بناها حفيده فهيم بيه خليل " .
ومن فهيم "بيه"هذا ؟..سؤال أجاب عنه عم مختار سرور، 55سنه، .."مسك العمودية بعد حنا بيه ..بنى ضريح الشيخ البنهاوى والمسجد بتاعه وعمل الكنيسة" .
وفى البلد 36 مسجدًا ، و..كنيسة واحدة .
و"الشيخ البنهاوى ده راجل بركة ..فيهم بيه عمل له الضريح ومن ساعتها البلد بتعمله مولد يوم 10 شعبان " .
"ناس زمان ما يتعوضوش ..ماكنش فيه حاجة اسمها مسلم ونصرانى..كله خالط مع كله ..لما يكون فيه جنازة هنا أو هنا تلاقى الناس كلها مع بعض ".

والآن
 "دلوقتى ماعدتش حد بيروح ولا بيجى ..كل واحد بيقول ياللا نفسى ..والناس خلقها ضاق ".
لم يبقى فى "طنان " غير السيرة العطرة لرجل مسيحى إقطاعى يدعى "حنا خليل شويل" توفى عام 1917 ،تاركاً حكايات متناقضة عن المسجد الذى بناه ،والسرايا ..المبنى الذى يدخل بك أفلام الماضى ..يسحبك إلى "رد قلبى"وكأنك جزء من أبطاله .. غير أن التراب الذى حاصره من كل جانب والقطع التى وقعت منه على الأرض والأشجار التى اصفرت أوراقها تذكرك بأن شيئا ما خطأ ..تؤكده لك تلك المبانى العشوائية التى أحاطته من كل جانب ..وتلك العلاقة المرتبكة التى بدت تطفو على لغة البسطاء بعنصرية موجودة ،وإن ادعى البعض اختفاءها .
حكايات متناقضة عن حنا خليل، حاول جمعها فى خيط واحد حفيده لواء متقاعد شاكر نصيف بقوله .."هو كان عمدة البلد ورئيس لجنة الشيخات اللى مهامها اختيار العمد ،وكانت زمان البلد إيد واحدة مسلمين ومسيحيين ..أية قضية كانوا يلجأون فيها لحنا بيه ..ماكنشى فيه قضية توصل للشرطة عشان ما تعملش حساسية بين الناس ".
"وهو بنى المسجد وكان بإسمه - جامع حنا بيه-، بدأ فى بناء المسجد مع بناء الكنيسة وكان العمال يعملون هنا وهنا ويتقاضون أجرهم منه ، وانتهى من بناء المسجد والكنيسة معا عام 1905 وعمل لهما "وقفية" خصص من خلالها   64 جنيها ًللمسجد ..للأوقاف الإسلامية، و100 جنيه للكاتدرائية تستمر مدى الحياة ، ويتم دفع هذه المبالغ حتى الأن ، كما خصص للوقف ناظراً يكون كما جاء فى الوقفية ..الإبن الأكبر ..فالأرشد..فالأرشد ..فالأرشد..إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها " .
تغير اسم المسجد بعد أن تسلمته وزارة الأوقاف والتى رأى المسئولون فيها وقتها أنه من الأفضل تغييره إلى "المسجد الكبير " لكن "الوقفية" مسجلة كما هى والناظر لا يزال موجوداً.
مكرم نصيف..ناظر الوقف.
 يتحدث الآن.. "البلد كلها شاركت فى بناء المسجد، حنا بيه هو اللى اقترح الفكرة وكان بيتولى مهمة شراء المواد الخام ،يدفع أجور الصنايعية والعمال من أهل البلد كانوا يشتغلوا فى الجامع يوم والكنيسة يوم ..ثواب لله".
وحرص حنا بيه حتى وفاته على عمل مائدة رحمن بخلاف مبنى "التكية" الذى يعمل طوال العام مقدما الأكل والإقامة لكل عابر سبيل أو ضيف قادم على البلد .
انتهت التكية منذ سنوات ،أما مائدة الرحمن فلم تختف من طنان إلا منذ عامين فقط بعد أن انشغل الأحفاد ، كل واحد بعمله فى القاهرة.
ضريح البنهاوى والمسجد الملاصق له تختلف حكايته كثيرا عن حكاية "جامع حنا" حكاية نعود فيها إلى الحفيد لواء شاكر نصيف .
 "فهيم عمل أساس المسجد وطلع المبانى فقط ،وتوقف عند هذا الحد بعد أن سلم المجلس العرفى المسألة، على أن يستكمل ما يفشل فى عمله المجلس للمسجد وقتها شارك معظم أهالى القرية فى التبرع للمسجد ..منهم من كان يتبرع بـ 1000 طوبة أو طن أسمنت والباقى يأتى من الفلوس التى يتم تحصيلها من حل المشكلات فى الدوَار ..من خلال صندوق كان يتولى مهمته رجل يسمى الشيخ حسن غنيم ".
مات حنا بيه ، وأحفاده فى الطريق إلى النسيان، بالضبط مثلما انا نسيت وجدتى وعم ميشيل.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق