30 ساعه فى حلايب وشلاتين









أيهما أفضل؟ أن تعيش معهم تحت مظلاتهم الخشبيه وخيمهم ..تحت حمايه قيم نبيله تجعل عقوبه الكذب الطرد والمقاطعه؟..أم أن تعيش داخل "خلاط" المدينة الذى تدخله منذ استيقاظك من النوم وحتى عودتك الى الفراش مره أخرى، حاملاً على لسانك كروت مجامله ونصف ابتسامة توزعها على الجميع ؟
هناك..مع شمس الشتاء التى توزع أشعتها الدافئه على استحياء مع "الجبنه" وعملة"الجمال" وطبيعه لم تفقد عذريتها بعد رغم وجودها عاريه فى الصحراء ..أم هنا تشارك الحياه رقصه صاخبه ..يحكمك فيها إيقاع البحث عن لقمه العيش ويسيطر على أعصابك التوتر والتلوث وزحمه المواصلات و"الكوبرى واقف " واليوم بيعدى زى الصاروخ "؟
هناك أم هنا ؟
سؤال ساذج يولد ببطء من أول خطوه لك على أرض شلاتين وحلايب ..يكتمل نموه لحظه الوداع أثناء قرارك الاجبارى بالعوده الى "القاهرة" والبحث عن "لقمه العيش".



مدهش أن تغمض عينيك ثم تفتحها على وجوه لم تعتدها ولهجه لم تسمعها وقوانين لم تخضع لها وقلوب  جاهزه لاحتضانك من أول ما تمد يدك للسلام ..مدهش أن تفتح عينيك على أشعة الشمس الطازجة التى تجبر عينيك على أن تلتقطا صورا لمشاهد وجوه سمراء متربه ..بجلابيب بيضاء قصيره ..وبيوت خشبيه ..
إنه نفس شعورى الان ، فلقد حدث ما أغمض عيناى ،حدث ..أننى لم أجد مكاناً فى الـأتوبيس الذى إستوقفه لى ضابط مرور لأركبه فى "القصير" ، متجهاً إلى حلايب وشلاتين ، لم أجد مكاناً أضع فيه قدمى فاليوم ..هو السبت ،نهاية الإجازة ،مع أتوبيس لا يدخل حلايب وشلاتين إلا كل يومين ، ومع ذلك قبلنى الكمسارى راكباً إضافياً معه ، ليدخلنى إلى مكان ، المفترض أنه مخصص لوضع متاعه الشخصى هو والسائق،مكان له شباك ، لم أعرف إسمه ، لكنى لن أنساه طيلة حياتى ، انه أقرب لـ"الخن" ،يوجد تحت كراسى المقدمة، لايمكن أن يزيد إرتفاعه عن 30 سم ، لذلك ..لايمكن الدخول إليه سوى زاحفاً ، دخلته ، هو إشترط عليا – الكمسارى- عدم الخروج منه إلا بإنتهاء الرحلة ، وياليتنى لم أوافق .
لقد شعرت أننى ألمس الموت بيدى مع كل مطب، اننى اتمدد فوق العجلة اليسرى مباشرة ،يشاركها عقلى الدوران، مثلما تعلن معدتى مع رائحة البنزين المنتشرة، رغبة فى غثيان ،لا أملك رفاهية حدوثة ،على مدى 6 ساعات متواصلة، 6 ساعات قلق وبنزين وخوف وظلام ومطبات وإحساس بحادثة قريبة.
لكن ..الحمد لله، مع إشعة الشمس التى دخلت بثقة إلى المكان ، دون الإعتراف بالشتاء ،..وصلت.
و..

الموبايل يرن .."أنت فين "؟
أرد: "أمام كافيتريا مكتوب عليها الحجاج " .
عوض السيد على "32سنه" مواليد أسوان ..محل الاقامه شلاتين ..إنها المدينه التى يعمل بها منذ "5"سنوات حين قرر أن يؤجر أحد المحلات ويجعل نشاطه إكسسوارات سيارات النقل .."بادفع 300 جنيه فى الشهر.. المحلات هنا رغم أنها خشب وضيقه بس إيجارها غالى ..عشان المنطقه أصلا كلها تجاره بين السودان ومصر ".
ويضيف :"إحنا نفطر الاول ..يكون المكتب اشتغل عشان نجيب تصريح نروح "أبو رماد " ومن هناك نطلع على حلايب ..المشوار بتاع ساعتين نقضى اليوم هناك ونرجع أخر النهار شلاتين ".
ينهى جملته فى الوقت الذى تقف أمامنا فيه سياره نقل يقترب لونها من البرتقالى الداكن وعلى لوحتها رقم و"ش. ق "..وعوض يعلق :" دى جايه من السودان.. جايبه سمسم " "ش.ق " يعنى شئون قبائل ".
بداخل الكافتيريا –التى فى حقيقتها مقهى شعبى متواضعة إمكانياته للغاية- يتراص مجموعه من السودانيين على كنب ،معلقين عيونهم على شاشه التليفزيون..يخيل لى أنه لو أحد مات خلفهم لن يتراجعوا عن النظر إلى هيفاء وهبى وهى تغنى "رجب..حوش صاحبك عنى" .

أخذنا تصريح المكتب، وإنطلقنا فى اتجاه أبو رماد ينبعث من سماعات السيارة، صوت مطرب سودانى يردد "وين أدسك"، فى الوقت نفسه أستسلم لنصائح عوض: "وانت بتصور بعد تماما عن الحاجات العسكريه ".
أهز رأسى علامة على الموافقه ،أما هو فيستمر .."ما ينفعش تتكلم هنا مع حد غير بإذن من رؤساء القبائل ".."أكبر قبيلتين هنا العبايده والبشارية".. "وفيه الرشايده ودول رحّل بيمشوا تبع المراعى والمطر ودول ما بيعلّموش ولادهم ..والسنه اللى فاتت كان لهم مشكله كبيره مع رئيس مجلس المدينه عشان رفض دخول عيالهم المدارس لأنهم مامعهومش أوراق " .."عادات العبايده والبشاريه مخالفه للصعايده ..لما توصل للشيخ حسن يحكيلك ".
أستمع إلى عوض فى صمت مستمتعاً بمنظر الصحراء العاريه التى تتلاحم مع البحر فجأه وتختفى منه فجأه أيضاً ..كل كام كيلو يهدىء عوض السرعة للمرور من أكمنه الشرطه العسكريه التى تسيطر على الطريق.. فجأه يتوقف تماماً .."ياساتر يارب عربيه مقلوبه ".

ننزل .

كراتين شيبسى ملقاه على الطريق ..وكراسى وأطباق بلاستيكيه كبيرة وزيوت ..وشخص نائم على ظهره يدندن بأغنيه لم أفهمها ..و..
نعود إلى السياره مرة أخرى، بعد أن قال لنا ذلك الشخص "متشكرين ..فيه واحد راح يجيب عربيه بدالها وييجى ".
أشعر بدرجة حرارة مرتفعة ،فى حين يستكمل عوض حديثه .."العربيات السودانيه بتجيب سمسم وكركديه وجمال وحلف بر ولب وسودانى ونباتات طبيه ،وبتاخد حلويات وزيوت ورابسو ومواعين بلاستيك "..و.."الرحله بتاخدلها بتاع 3 أيام من شلاتين لحد ما توصل الخرطوم ".
أطلب من عوض أن يهدىء السرعة على مشهد قطيع من الجمال ..أحد الجمال تخلف عن القطيع ..ثم ركض فجأه ناظراً إلى باقى جمال القطيع .. الراعى ينظر اليه فى عدم اهتمام ، عوض يجيب عن سؤالى له عن السبب .." الرحله بتاخد 10 أيام من السودان إلى شلاتين بلا زاد فى الصحراء الجمال تتحمل أو تأكل ما يصادفها فى المراعى ..الراعى لن يوقف الرحله لان جمل تعبان ".
أضحك ،وأنا أردد "القافلة تسير ..والحياة لا تقف على أحد " .
امام مكتب أبو رماد نزل عوض ليعود بعد 10 دقائق  وفى يده تصريح دخول الى" حلايب "- بخلاف التصريح السابق لدخول أبورماد- ،حلايب..القريه التى تسبق خط 22 درجة، الفاصل الحدودى بين مصر والسودان بـ 10 كيلو مترات فقط .
وصلنا.
"وين الشيخ حسن "..يقولها عوض لأحد الواقفين أمام المحلات التجاريه والذى يشير بدوره الى أحد  المقاهى قائلا "بيسمع الماتش ".
أمام المقهى ،على الباب الخشبى ،ترك الزوار أحذيتهم وشباشبهم وجلسوا حفاة على الارض، أما الشيخ حسن الترابى ..شيخ مشايخ البشاريه فاكتفى بالسلام علينا ..طالباً- بلطف - أن يستكمل المباراه ..عرفت منه بعد ذلك أنه أهلاوى صميم .
على كراسى مقهى مجاور جلسنا ..الشيخ حسن يحدثنى عن عادات وتقاليد البشاريه ..عن المجالس العرفيه ..عن طقوس الزواج وأعياد الميلاد ..هو يتحدث وأنا أكتب .
الآن أقرأ ما كتبت :
"المجالس العرفيه تتبع شئون القبائل ..مهمتها حل المنازعات بين القبائل ..الاحكام هنا بالديه ..والشيخ يقدر ثمن الخطأ ، والديه قد تكون مبلغاً مادياً أو تقدر بالجمال ".
"نختلف عن الصعيد فى الثأر ..وهو نادرا ما يحدث فى حلايب وشلاتين ،وإذا حدث لابد أن يتم قتل القاتل نفسه، وفى وجهه ،ولا يؤخذ غدراً من الظهر ،وبشكل عام فى حلايب وشلاتين لا يوجد قتل ،واذا وجد ،تكون الديه هى الحل ..الديه حكم إجبارى لابد أن يدفعه المخطىء - حتى لو رفضه صاحب الحق- لتحاشى تكرار الخطأ ..وحتى يحاسب الذى يتعدى على الآخر .. الجميع يسمع كلام المشايخ "الأجاويد" ..يرتضون حكمهم ..ومن يخرج عنهم يتم مقاطعته اقتصادياً ..،لكل جريمه ديتها ..الكذب جريمة والضرب جريمة والسب جريمة ..مثلا دية الضرب على الوجه يتم حسابها بعدد الاصابع كل إصبع يقابله مبلغ من المال".
معلومات أخرى ، حصلت عليها ،من أخرين، غير الشيخ حسن.
عرفت.. أن عادات وتقاليد البشاريه والعبابده واحدة تقريباً، ربما يكون الفرق الوحيد هو اللغه البيجاويه أو ما يسمى هنا بـ"الرطانه"،والتى يتحدثها البشاريه فيما بينهم ..بل إن بعضهم لا يعرف غيرها لغة فى التعامل بينهم .     
كما عرفت أن الزواج ..يظهر فيه بوضوح الاختلاف بين عادات وتقاليد العبابده والبشارية – تشكل القبيلتان 90% من سكان مثلث حلايب وشلاتين - وأى مكان آخر ..فهنا- كما حكى لى عيسى لباب – الأب هو الذى يحدد متى يتزوج الابن ،والبنت ليس لها حق الاختيار ..والدها من حقه ان يرفض بشرط أن يعلن أسباب رفضه على مجلس القبيلة.
وأن ..العريس يدفع كل شىء ،بداية من "القبض" أو ما يسمى أيضاًبـ "فتحه الخشم "- ما يوازى قرأة الفاتحه -  والذى يقدمه العريس الى العروس وخالها ثم يجهز "البرش" الذى يعيشان به ،ويقدم أيضا ما يسمى بـ"متلويب" والذى يساوى ناقه عشارا ومجموعة من الماعز ..ليكون شركاً بين العروسين كمشروع استثمارى يتقاسمان أرباحه المستقبليه فيما بينهما .
يوم العرس، تعكف النساء منذ الصباح الباكر على تجهيز "الدلكا" ..تلك الماده التى تصنع من الدقيق ويتم دهن جسم العروس بها ليجعل جلدها قوياً، ناعماَ بعد إزالته ،وتقام الاحتفالات لمده 7 أيام متواصلة ..سباقات جمل ..رقص بالسيف ..مبارزات فى الوقت ذاته يرافق العريس "الوزير"..وهو أحد أصدقائه المقربين الذى يتولى مهمة قضاء طلبات العريس ومصادقته منذ قرار الزواج وحتى اليوم السابع .
نفس الامر عند العروس و"وزيرتها".
فى العرس يستقبل العريس ضيوفه ويحييهم بضربهم بالكرباج ..إنها التحية والتهنئه التى لا يسلم منها احد.
طوال فتره العرس لا تكف الذبائح لإطعام المهنئين الذين يقيمون فى الغالب بجوار بيت العروسيين حتى يأتى اليوم السابع والذى يسافر فيه العريس "سفريه التشويق "..وهى أيام معدودة يجعل العروس تتلهف عليه وهو ايضاً ..ليعود مره أخرى الى بيته الجديد .
طوال الـ 40 يوماً الاولى من الزواج ،يحرم على العريس التواجد بعيداً عن عروسه طالما أذن لصلاة المغرب ،واذا حدث، يعقد له مجلس عرفى يتم محاكمته فيه وتغريمه.
نعود مره أخرى الى شلاتين بعد قضاء ساعة ونصف فى حلايب .. قابلنا خلالها عبد الناصر الحميدى موظف الشئون الاجتماعيه الذى يقيم فى استراحة الشئون.. قنائى ..متزوج ..يقضى اسبوعين فى حلايب وأسبوعاً مع أولاده وزوجته .."الحياه هنا حلوه جدا ،الناس طيبون يعرفون بعضهم جميعا ..المشكلة الوحيدة الماء والملل ،"برميل" المياه البلاستيك بشتريه بـ 60 جنيهاً، توجد محطه مياه تحليه لكن مياهها تفسد الملابس أثناء الغسيل فما بالك اذا تم شربها ؟"
تودع الشمس شلاتين فى الوقت الذى ندخلها فيه.
 هل يمكن ان اعود الآن الى القصير ؟
أسأل عوض وهو يجيب : مستحيل ..أولاً ممنوع خروج أى سيارة بعد الخامسه مساءً من هنا ،ثانياً اتوبيسات النقل العام هى الوسيلة الوحيده لعودتك وهما اتوبيسان واحد منهما يخرج الخامسة مساء متجهاً الى القاهره فى رحلة لا تقل مدتها عن 17 ساعه بسبب الأعطال الكثيرة.. ،ويقول،- وهو يشير إلى مجموعة من الجالسين والنائمين بأمتعتهم بجوار المكان الذى تقف فيه الأتوبيسات - :لا تندهش من تجمع هؤلاء فى المحطة، أحيانا الأتوبيس يأخذ يومين أو ثلاثه حتى يجىء وهم ايضاَ ينتظرون بشنطهم ..لا توجد لديهم مشاكل، اعتادوا على ذلك ..إنها حياتهم ".
السابعه مساءً ولا يوجد أحد فى شوارع شلاتين .
"الناس هنا بتنام بدرى .. بدرى "..يقولها عوض ونحن نتجه ناحية الفندق هو الفندق المدنى الوحيد هنا..يمتلكه سر الختم -أحد المشايخ- .." نام والصبح يسهلها ربنا ".
لا نزلاء بالفندق تقريباً ،حجرة واحدة فقط التى تسكن .
 أضحك على كلمات الشاب الذى إستقبلنى .."وهطلعك أحسن أوضه عندنا ،الليله بـ40 جنيهاً .
 هو فى النهاية ابن صاحب الفندق ،حين سألته عن النزيل الاخر بعد ذلك ..رد.. "سواق" .
الماء منقطع ..الحمامات مشتركة ..صور للمحافظ وهو يفتتح الفندق ..مشهد عام .
وفى الحجرة ،على سريرها بطانية خفيفة ..كانت كافية لدخول جسدى نزلة برد..مع تلك العواصف الليلية الباردة التى لم تكف عن لسعتى رغم غلق شباك وباب الحجرة.

صباح جديد.

الشيخ"سر الختم" ينتظرنى فى طرقة الاستقبال ..وبعد السلام ،نذهب معاً إلى اللواء على شوكت رئيس مجلس مدينه شلاتين .
استقبال حميم ونصيحه بمقابله رؤساء القبائل .
أريد أن أعرف بقيه عادات وتقاليد المنطقه ؟..أقدم طلبى لمحمد طاهر سقم شيخ قبيله البشاريه فى شلاتين ..لأكتب معلومات جديدة:
العبابده والبشاريه لا يطلقون على المولود الجديد أى اسم حتى اليوم السابع وفى هذا اليوم يذبحون له ذبيحه – خروف - ،يعزمون عليه الاهل ..كإعلان رسمى عن إنضمام مولود جديد إلى حياتهم ..فى هذا الوقت فقط ،يعلن الأب الاسم الذى اختاره لمولوده .
أسأله ..وإذا أراد أحدكم الزواج بأخرى ؟
فيجيب لابد أولاً أن يقدم "رضوه" لزوجته الاولى ..بمعنى أن يشترى لها مثلما يشترى لزوجته الثانيه بالضبط على ان يعدل بينهما بعد ذلك وإذا اشتكت زوجته منه وثبتت شكواها يتم تغريمه مادياً .
أترك الشيخ طاهر بعد اقتسامنا مجموعة من الحكايات عن فنون القتال والصيد فى الصحراء مع أكواب فناجين "الجبنه" .
أسلم على عوض بعد أن قدم لى خبر وجود سياره تستعد للذهاب الى إدفو.
أركب مودعاً عوض ..وأنا أفكر فى خلاط المدينة الكبيرة .
القاهرة





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق